في مجتمعات تتفاقم فيها المعاناة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، تبدو مشاهدة أعمال دموية عنيفة، ضمن الاعتياد اليومي -آخرها مسلسل “سفاح الجيزة” المصري، على سبيل المثال- شكلا من أشكال إيذاء الذات، حيث كثير من الآثار البدنية والنفسية، بل والأخلاقية التي تترتب على المشاهدة، وتمتد لسنوات طويلة، كما يقول المختصون.
آثار تعدّدها الدراسات، من فقدان الثقة في النفس والآخرين، والقلق، والتوتر، والشعور بالضيق، فضلا عن التأثيرات اللحظية أثناء المشاهدة؛ مثل: ارتفاع ضغط الدم وغيرها، حيث تحوّل مشاهد الذبح والسفك، لفعل إيذاء حقيقي، يعاني ضحاياه وهم في مواضعهم خلف الشاشات، وهكذا يصيرون “ضحايا في منازلهم”.
أعمال دموية في كل مكان
سيدة تعذب خطيبة ابنها، ثم تفلت من العقاب، بل ويتعاطف معها المشاهدون في قصة “تحت الحزام”، التي تُعرض من بين حلقات مسلسل “حدث بالفعل”. وسفاح يقتل، ويعذب ويخطف، ثم يتعاطف معه الجميع كونه ضحية طفولة صعبة أو أم غير رحيمة، قصص يبدو أنها تستهوي عددا ضخما من المشاهدين، ليس على المستوى المحلي فقط، ولكن على المستوى العالمي كذلك.
وحسب موقع (آي إم دي بي) العالمي، تحظى قائمة الأفلام الدموية على الموقع بشعبية ضخمة، وتحصد ملايين الأصوات، ومليارات الدولارات، وملايين المشاهدات، سواء داخل صالات السينما، أو عبر المنصات الإلكترونية.
ماذا يحدث لك أمام مشاهد الذبح الدموية؟
في البداية يرتفع ضغط الدم، وتتزايد مشاعر القلق والتوتر، ويتغير معدل ضربات القلب، زيادة أو نقصا، ثم تعتاد السلوك العدواني، فتعدّه ردّ فعل عاديا على الأمور اليسيرة اليومية، فضلا عن بعض الأحلام السيئة، والأجواء المشحونة المتوترة، وربما يصل الأمر لدى بعض المشاهدين للإقدام على تنفيذ عمليات قتل، إذا وصلت الضغوط إلى درجة بعينها، أو كانت لديهم استعدادت معينة.
صارت ليلى عادل (37 سنة وتعمل في مجال التسويق) تشعر أنها ربما تكون ضحية محتملة لسفاح قادم، عقب مشاهدة مسلسل “سفاح الجيزة”.
تقول ليلى للجزيرة نت، “لا تبارح ذهني مشاهد الذبح التي جاءت صادمة جدا، ولكني أصبحت -أيضا- أتشكك في الناس من حولي، خاصة هؤلاء الذين يبدر منهم لطف زائد ودماثة -كما حدث مع أبطال المسلسل- وصار في ذهني ارتباط شَرطي بين الإجرام والسلوك الظاهري الطيب، ناهيك عن النهاية العامرة بالتعاطف مع المجرمين في كل عمل جديد”.
وتضيف ليلى “ما زلت أتساءل حتى الآن: هل قضيت أياما من التوتر والضيق كي أتعاطف مع قاتل في النهاية”؟ وتتساءل السيدة التي كثيرا ما باغتها صغيرها، لتكتشف أنه استيقظ من نومه ليشاركها المشاهدة من بعيد “شعرت أنني آذيت صغيري، تماما كما شعرت أنني آذيت نفسي، حين وجدتني أتفاعل باستخدام تعبيرات وجه السفاح كونها تعدّ أمرا مضحكا عبر مواقع التواصل”.
وحسب أبحاث، فإن التعرض المنتظم للعنف عبر وسائل الإعلام، يتسبب في عدد من الآثار؛ يمكن إجمالها في:
- انتهاج السلوك العدواني على المدى الطويل.
- إزالة الحساسيات تجاه العنف، وزيادة خطر تعاطي المخدرات، ومشكلات الصحة العقلية على المدى الطويل.
- زيادة احتمالات السلوك العدواني لدى الأفراد الذين لديهم استعداد للعنف بالفعل.
ويبدو الأمر أكثر خطورة كلما قلّ عمر المشاهد، فيرتبط التعرض للمشاهد العنيفة في وسائل الإعلام، بالقلق لدى الشباب.
وتشير إلى تلك النتيجة دراسة علمية حول آثار العنف الإعلامي على القلق في مرحلة المراهقة المتأخرة، نشرت بمجلة “جورنال أوف يوث آند أدولسنس” في 2014، حيث أظهر المشاركون في الدراسة زيادة في ضغط الدم، وانخفاضا في معدل ضربات القلب، وزيادة في القلق، خاصة أولئك الذين لم يتعرضوا من قبل للعنف في الواقع.
تذهب الآثار الضارة لمشاهدة الأعمال العنيفة لأبعد من ذلك لدى الأطفال، حيث تشير دراسات إلى أن التعرض لوسائل الإعلام التي تحمل مضمونا دمويا عنيفا، يزيد من احتمالية السلوك العدواني لدى الأطفال، خاصة إن كانت مشاهد العنف دون عواقب سلبية؛ كالندم، أو الشعور بالذنب، أو الألم والمعاناة والحزن، هنا تتحول -حسب باحثين- إلى سلوك، خاصة أنه عادة ما ترتبط مشاهد العدوان برسائل أساسية؛ أهمها:
- العدوان وسيلة جيدة لحل الصراعات.
- العدوان يزيد من مكانة الفرد.
- العدوان أمر مثير.
لكن الأخطر من هذا كله هو توفير تسويغ للأعمال العدوانية المعروضة، كونها مجرد ردّ فعل، أو محاولة وراء قضية نبيلة، هكذا يتبنّى الأطفال السلوكيات العدوانية والعنيفة في مراحل مختلفة من حياتهم، على أنها أمور مسوّغة ومتوقعة وعادية.
تفضيلات في القتل
لعل الأمر الباهر بشأن كل من الأعمال السينمائية والتلفزيونية الدموية، أنها تصنع رأيا عاما مؤيدا أو معارضا لنوع “الضحية”. كان هذا من بين ما أشارت إليه دراسة أكدت أن الجمهور يفضل أفلام الرعب المصورة، التي تصور إيذاء النساء، ولكن ليس إيذاء الرجال.
توقف إكراما لنفسك
عشرات من المنشورات الساخرة، تحمل وجه السفاح، حتى إن التعبير الذي يفترض أنه مخيف للرجل، تحول إلى “ميم” (صور ساخرة) يُستخدم عبر التعليقات بمواقع التواصل الاجتماعي، مسألة تذهب لأبعد من مجرد ابتسامة ترتسم على الوجوه، بحسب الدكتور محمد عبد المنعم يوسف، استشاري الطب النفسي، الذي يؤكد أن أسوأ ما يمكن أن يحدث بشأن الأعمال الدرامية الدموية، أن تتحول مشاهد القتل والسفك لشيء مضحك.
“ربط العنف بالضحك، يعيد ضبط المخ البشري بطريقة مختلفة، وينفي الارتباط الشرطي الفطري السليم بين مشاهدة العنف والشعور بعدم الارتياح، هكذا تصير مشاهد العنف على أرض الواقع أمرا عاديا، ولذلك يتسم الناس مع الوقت بالسلبية حين يواجهون موقفا يتأذى خلاله آخرون، فيقفون دون حراك، هكذا تكون نتيجة كسر الحواجز بين الناس وبين العنف”.
المدير العلاجي بمستشفى العباسية للصحة النفسية، ينصح بمراجعة التصنيفات التي تحملها مواد المشاهدة عموما، وأخذها على محمل الجد، ويقول، “إن كانت تحمل لفظ محتوى عنيف، أو دموي، فلا أنصح بمشاهدتها، لا نستطيع منع تلك النوعية من الأعمال، لكننا نستطيع أن نمنع أنفسنا عنها”.
ويقول، إن “طاقة احتمال البشر للعنف، تختلف من شخص لآخر، فبعض الناس لا يحتمل مشاهدة عملية ذبح الأضحية وهو أمر ديني وحلال، وبعضهم لا يشكّل لديه الأمر فارقا يُذكر، لذا من المهم أن يحصّن الإنسان نفسه، ويدخل في ذلك الألعاب الإلكترونية بمختلف أنواعها، بأي صورة، وبكل شكل، يجب أن ننتبه ألا يصير فعل العنف ممتعا وسهلا”.