قد لا تدركُ الولايات المتحدة وأوروبا أنَّ ترسيخ خطاب الإبادة والقتل للفلسطينيين في غزّة عبر استدعاء فكرة الخلاص بإبادة البعض من أجل بقاء شعب الله المختار، هو ترسيخ لخطاب الكراهية وزيادة كبيرة في فجوة الكراهيَّة بين المسلمين والغرب، وهو ما قد يُولّد درجات متفاوتة من العنف، بل يعزّز التطرف والإرهاب في العالم الإسلامي، وكأنَّ الولايات المتحدة وأوروبا لم تستوعبا ما حدث بعد غزو العراق إثر ادّعاءات كاذبة بوجود أسلحة دمار شامل، وحصار مرير من 1990 إلى 2003 م، من هنا فإنَّ تحليل الخطاب على طرفَي الحرب، يبرز تصاعد الكراهية بصورة غير مسبوقة، ينبع هذا من إسرائيلَ التي يبدو أن لديها خوفًا كامنًا وعدم يقين، ما ولّد لدى الإسرائيليين خوفًا غير مسبوق لدى الجيل الحالي، في الوقت التي بثت فيه خطابات الساسة الإسرائيليين تحريضًا للغرب ضدّ الفلسطينيين تارة بتشبيه حماس بداعش، وبالتالي استدعاء الصورة الذهنية لداعش في العراق وسوريا والتي ترتبط بقطع الرؤوس أو سبي النساء .. إلخ، وتارة بتشبيه حماس بالنازية، كل هذا والطرف الآخر الذي يمثله مناصرو الفلسطينيين من المسلمين يستدعون على الفور الحروب الصليبية وما صاحبها من مجازر خاصة عند دخول الصليبيين القدس، حيث ذكرت المصادر التاريخية أنه قُتل من المسلمين 70 ألفًا، وكذلك الإبادة التي قام بها الإنسان الأوروبي للشعوب الأصلية في الأميركتين.

صور غير صحيحة

إن كل ما سبق يتمّ عبر وسائل الإعلام الرسمية على جانبي الحرب ومناصري كل طرف، لكن هذه الحرب الدعائية ساحاتها الحقيقية هي وسائط التواصل الاجتماعي، فمنصات الإعلام الرقْمي توفر مساحات بديلة للتعبير عن الرأي، ونقل وتغطية الأحداث من زوايا لا تغطيها وسائل الإعلام التقليدية، هنا يتم تضخيم المحتوى الحاثّ على الكراهية بواسطة الخوارزميات على منصات التواصل الاجتماعي، ويحظى هذا بقدر كبير من المشاركة والاهتمام، الخطورة تكمن في مشاركة محتوى لم يجرِ التحقّق من صدقه أم هو مضلل، ويضخّم من يبثّ ذلك الادعاءات التي لا أساس لها، وفي حرب إسرائيل ضد غزة وصل التضليل إلى مستوى غير مسبوق لتوجيه قرارات الدول الغربية، ليزيد محتوى وسائط التواصل الاجتماعي من وتيرة الحرب على كل المستويات، لكن الخدعة أيضًا تأتي من مصادر بحسابات مجهولة قُدرت على منصات “إكس” و”تيك توك” بـ 20 % من حجم الحسابات، وما يعزز دور هذه الحسابات أن اشتراكًا بقيمة 8 دولارات شهريًا على منصة “إكس” مع العلامة الزرقاء يؤدي إلى نشر معلومات وتقارير وصور مزيفة بمساعدة الخوارزميات وإلى زيادة الكراهية بصور غير مسبوقة، هنا منصات التواصل الاجتماعي تضخّم قوةَ طرف على حساب طرف آخر، فقد ثبت أنَّ الصور التي تظهر أطفالًا إسرائيليين في أقفاص خطفتهم حماس غير صحيحة، كذلك تبيّن أنَّ حسابًا يتظاهر بأنه “صحيفة جيروزاليم بوست” الإسرائيلية أشاع أنَّ بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي نُقل إلى المستشفى، كما أظهرت مقاطع مزيفة جنرالات إسرائيليين أَسَرتهم حماس، وتبين أنَّها من أذربيجان، ومقطع آخر مزيف أظهر قطع رأس طفل بزعم أن حماس ارتكبته، وهو ما حدث في الواقع في سوريا عام 2016 م، كما لم يتم التأكد من قبل الساسة الغربيين من قصة قطع رأس 40 طفلًا، من قبل أي حساب رسمي، حتى تبنّاها الرئيس الأميركي جو بادين في خطابه لإدانة حماس، ليتم التراجع الأميركي لاحقًا عن هذا الاتهام، كما أنَّ الفرق الإسرائيلية مهمتها تشويه صورة الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية لدى الغرب، حتى بثّت ما يزيد على مائة ألف تدوينة منذ 7 أكتوبر تقوم على بعث الشكوك والكراهية، وكان نتاج كل ما سبق ترسيخ خطاب الكراهية ضد الفلسطينيين في الغرب، وبالتبعية ضد العرب والمسلمين .

إزالة محتوى وتقييد حسابات

كانت إسرائيل التي تتابع من كثب كل ما يُنشر على وسائط التواصل الاجتماعي، قد مارست ضغوطًا على منصة “تيك توك” لإزالة محتوى معادٍ لها بصورة غير مسبوقة، ففي عام 2022 م، تلقت “تيك توك” 2713 طلبًا لإزالة محتوى أو حسابات أو تقييدها، وتأتي الحكومة الإسرائيلية ثانية بعد روسيا في طلبات إزالة المحتوى على “تيك توك” عالميًا، قدمت إسرائيل 252 طلبًا رسميًا؛ أي 9.2 %، فيما قدّمت الولايات المتحدة 13 فقط، وفرنسا 27، وبريطانيا 71، وألمانيا 167 طلبًا، لكنّ المهم في حرب غزة الحالية هو أن إسرائيل تركّز بصورة غير مسبوقة في وسائط التواصل الاجتماعي على تحسين رؤية الجمهور الإسرائيلي أداءَ إسرائيل في الحرب الحالية، هذا ما قد يكشف عدة أبعاد متعلّقة بالمصداقية الإسرائيلية لعدة أسباب قد تعود إلى أنّ خسائر إسرائيل أكبر بكثير مما هو معلن عنه، وأنّ الصدمة كانت أعمق مما نتخيله، ما هزَّ ثقة الإسرائيليين في أنفسهم وفي الدولة الإسرائيلية، هذا ما يقدم؛ تفسيرًا للشراسة الإسرائيلية في القتل والتدمير في غزّة، وهذا ما قاد الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إلى القلق من وضع إسرائيل في المنطقة العربية، خاصةً أنّ إسرائيل نفسها باتت في وضع قلق على استمرارية الدعم الغربي، في ظلّ تصاعد دور فاعلين جدد في الشرق الأوسط قد يؤدون أدوارها.

إنَّ إرسال حاملات الطائرات والبوارج والقوَّات والأسلحة من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، استدعى للذهنية العربية على الفور lما حدث بعد معركة حطين، فتكتّلت أوروبا ضده حتى استولت على مدينة عكا بعد أن حررها صلاح الدين الأيوبي، من هنا فإنّ الولايات المتّحدة وأوروبا لا تدركان أنهما بدعمهما المطلق المعلن إسرائيل لإبادة الفلسطينيين في غزة تثيران مشاعر متصاعدة وتبعثان كراهية دفنت في كتب التاريخ من منطلقات هي ترسخ الحرب الدينية، وبالتالي العنف القائم على الدين، عزَّز هذا وسائل الإعلام الغربية وخطابات الساسة الغربيين في إسرائيل، ما شكّل تجسيدًا غير مسبوق لخطاب الكراهية، سيدركه الغرب بعد انتهاء هذه الحرب، وهذا ما سيدفع دول الغرب يائسةً مستقبلًا لمحاولات تحسين صورتها في العالم الإسلامي، وهي مهمة ثقيلة لم يدركها الغرب إلى الآن، خاصةً مع ترديد المسؤولين الإسرائيليين أنّ الفلسطينيين “حيوانات يجب إبادتهم ” دون استنكار غربي، ودون أن يدرك الغرب أن شعوب العالَمين: العربي والإسلامي تلتقط هذه الكلمات والصمت الغربي عنها بصورة ترسخ الكراهية، فقد صُوِّر بنيامين نتنياهو وهو ملطخ بدم الفلسطينيين ويده يخرج منها شلال دم متدفّق من دم الفلسطينيين في وسائط التواصل الاجتماعي العربية، وهذه إشارة لم يفهمها الغرب ولم يستطع أن يحللها، فهي تعبير عن الرغبة في الثأر، لتبدو ساحات الإعلام الرقمي كأنها ساحات للحرب والحرب المضادة، وباتت أيضًا هذه الساحات تنتقد الغرب في قضايا حقوق الإنسان، وتقارن تفاعله مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وتبرز هذه التناقضات بقوَّة أنَّ الدم الفلسطيني لا قيمة له، وبالتالي ينسحب هذا على الدم العربي والمسلم، في حين أنّ الأوكراني يستحق الدفاع عنه.

تكريس الكراهية

إنَّ الغرب الذي يقود العديد من الحملات لنزع الكراهيّة في الوقت الذي يكرّس فيه الكراهية لا يدري أن نصوصه التي وضعها في العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة بالمادة ( 20 ) تنصّ على الحظر القانوني لأية دعوة إلى الحرب أو إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة، وكذلك الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز في المادة ( 4 ) والتي تحرم التعبير بواسطة أفكار تنمّ عن التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية، وكلُّ تحريض عنصري وكل عمل من أعمال العنف أو تحريض على هذه الأعمال يرتكب ضد أي عِرق معين أو أية جماعة من لون أو جذر إثني أخر، وكذلك كل مساعدة للأعمال العنصرية التمييزية، بما في ذلك تمويلها، جريمةٌ يعاقب عليها القانون .

وفي الاتفاقية الأميركية لحقوق الإنسان في المادة (13) جاء ما يلي: (وإن أية دعاية للحرب وأية دعوة إلى الكراهية القومية أو الدينية واللتين تشكلان تحريضًا على العنف المخالف للقانون، أو أي عمل غير قانوني آخر وما يشابهه ضد أي شخص أو مجموعة أشخاص، مهما كان السبب، سواء أكان سببه العرق أم اللون أو الدين أو اللغة أو الأصل القومي، تعتبر جرائم يعاقب عليها القانون).

كما أن الشبكة الدولية لمناهضة الكراهية الإلكترونية تعرف الكراهية بأنّها: (عبارة عن بيانات تمييزية أو تشهيرية عامة متعمدة أو غير مقصودة أو التحريض المتعمد على الكراهية أو العنف أو الفصل على أساس الجنس الحقيقي أو المتصور للشخص أو المعتقدات السياسية، والحالة الاجتماعية والممتلكات والولادة والعمر.. إلخ).

فهل يدرك الغرب ما يفعله عبر تأكيده خطاب الكراهية المتواصل وتبعات الدعم اللامحدود لإسرائيل على الكراهية التي يزرعها لدى شعوبه وشعوب العالم الإسلامي، وتبعات هذا على المدى البعيد في حرب أساسها عدم الإدراك لكل كلمة وتصرف وتبعاتهما؟.

578 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *