كانت الفتوحات الإسلامية للمغرب هي الأصعب والأطول، في تاريخ الفتوحات الإسلامية كلها. فعلى رمال صحاري بلاد المغرب المترامية، وفي سهولها الفسيحة، وجبالها الشاهقة، خاض المسلمون عشرات المعارك، وبذلوا أروع صور الجهاد في سبيل الله، وفقدوا عشرات الآلاف من خيرة الرجال، من الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين ووجوه العرب. فمن المعروف أن العرب افتتحوا العراق والشام ومصر، في مدة لا تزيد عن 10 سنوات، أما هذه البلاد، فقد استغرق فتحها زهاء 70 عاما، من 23هـ حتى نهاية العقد التاسع الهجري.
كان البيزنطيون يريدون الاحتفاظ بأفريقيا بأي ثمن، بعد أن طردهم المسلمون من مصر والشام، ولما كانت القوى البحرية الإسلامية بأفريقيا لا تزال ضعيفة، فقد تعرض المسلمون لضربات قاسية من الأسطول البيزنطي
قادة الفتح الإسلامي للمغرب
- عمرو بن العاص (23هـ): وهو الذي دشن الفتوح في المغرب، وفتح برقة وطرابلس وفزان، قبل أن يوقف الفاروق محاولة الفتح في هذه الجهة، ويقول كلمته المأثورة، إنها مفرقة فلن تغزوها ما بقيت.
- عبد الله بن سعد بن أبي سرح (27هـ): فاتح أفريقيا (تونس)، وبطل معركة سبيطلة الحاسمة، التي أنهت وجود الروم البري في أفريقيا إلى الأبد، وذلك في خلافة عثمان.
- معاوية بن حديج السكوني (45هـ): فاتح بنزرت، وسوسة، وجلولاء، وذلك في خلافة معاوية.
- عقبة بن نافع الفهري: البطل الشجاع، رائد الفتوح المنظمة بالمغرب، والشخصية الأبرز في فتوح المغرب، وباني مدينة القيروان الخالدة، وذلك سنة 50هـ في خلافة معاوية، ثم سنة 62هـ في خلافة يزيد.
- أبو المهاجر دينار (55هـ): فاتح المغرب الأوسط، حتى تلمسان، وذلك في خلافة معاوية.
- زهير بن قيس البلوي (69هـ): وهو قائد المعركة الحاسمة في أفريقيا ضد البربر، التي قضت على كسيلة، شيخ قبيلة أوربة الموالي للروم، والخصم العنيد للمسلمين، وذلك في خلافة عبد الملك.
- حسان بن النعمان الغساني (74هـ): وهو الذي قضى على الكاهنة، في جبال أوراس بالمغرب الأوسط، حيث كانت المقاومة الأصعب التي واجهها المسلمون بالمغرب، وهو -أيضا- فاتح مدينة قرطاجة الشهيرة، ومؤسس البحرية الإسلامية بتونس، وذلك في خلافة عبد الملك.
- موسى بن نصير (86هـ): وهو الذي أنجز المرحلة النهائية في فتوح المغرب، والتقدم نحو المحيط الأطلسي، واستكمل أطول فتح في تاريخ الإسلام العسكري، ووضع أسس التقسيم الإداري للمغرب، وأرسى روح التلاحم بين العرب والبربر، في إطار الإسلام، وذلك في خلافة الوليد.
أسباب تلك المصاعب
وترجع المصاعب التي واجهها العرب أثناء فتحهم للمغرب، والمدة الطويلة التي استغرقها هذا الفتح، إلى أسباب عدة؛ منها:
- سعة بلاد المغرب ووعورة تضاريسها:
فالمغرب عبارة عن منطقة جبلية شاسعة تمتد من الشرق إلى الغرب (حوالي 4000 كم) يحيط بها البحر المتوسط شمالا، والمحيط الأطلسي غربا. كذلك تحدها من الشمال سلسلة جبال الريف، التي تمتد من المحيط الأطلسي إلى قرب تلمسان (قاعدة المغرب الأوسط) شرقا. أما في الجنوب فهناك سلسلة جبال أطلس التي تمتد من المغرب الأقصى إلى المغرب الأدنى.
- كثرة قبائلها وبسالتها وعنفها في القتال:
فإن ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيات، فلم يُغن فيهم الغلب الأول الذي كان لابن أبي سرح عليهم شيئا، وعاودوا بعد ذلك للثورة والردة مرة بعد أخرى، وعظم الإثخان من المسلمين فيهم، حتى قيل، إن البربر ارتدت 12 مرة، ولم تستقر كلمة الإسلام فيهم إلا لعهد ولاية موسى بن نصير. فكانت مقاومتهم للمسلمين، ولذا كانوا أشد عنفا من مقاومة الفرس والروم المدربين لهم.
- الغارات البحرية البيزنطية على المسلمين
فقد كان البيزنطيون يريدون الاحتفاظ بأفريقيا بأي ثمن، بعد أن طردهم المسلمون من مصر والشام، ولما كانت القوى البحرية الإسلامية بأفريقيا لا تزال ضعيفة، فقد تعرض المسلمون لضربات قاسية من الأسطول البيزنطي، الذي ركز قواه هناك. لكون الإمبراطور قسطنطين خليفة هرقل، بعد أن هزمه المسلمون في وقعة ذات الصواري (34 هـ)، نقل مقره إلى صقلية لحماية الأم (روما)، قبل حماية البنت (القسطنطينية).
- قلة أعداد العرب الفاتحين وبعدهم عن قواعدهم:
فقد كانت قلة أعداد المسلمين الفاتحين في المغرب، بالنسبة لمساحة البلاد الشاسعة، وكذلك بالنسبة لكثافة سكانها، تحول بينهم وتحويل فتوحاتهم إلى فتوح ثابتة ومستقرة، كما أن بعدهم عن مركزهم في الجزيرة العربية والشام، بل وحتى في مصر، كان يحرمهم من المدد الواسع الكثيف.
- الحروب الأهلية التي لفحت دولة الخلافة بنيرانها:
وذلك بعد مقتل الخليفة عثمان -رضي الله عنه-، ثم تجدد هذه الحروب بعد وفاة معاوية، وانتقال الخلافة بالوراثة إلى ابنه يزيد، هذا الأخير الذي لم يكن محلّ إجماع المسلمين. وقد نتج عن هذه الحروب إيقاف الفتح في المغرب مرتين، ولسنوات عدة في المرة الأولى، ولسنوات عدة في المرة الثانية.
أكرم الله العرب المسلمين بعد تلك التضحيات الكبيرة التي قدموها في فتح المغرب بفتح إسبانيا، التي أدى البربر الذين آمنوا بدين الله بصدق وحمية، وانتقلوا من الهامشية إلى الفاعلية، دورا كبيرا وملموسا في فتحها
نتائج الفتح الإسلامي للمغرب
على أن جهود العرب المسلمين وتضحياتهم الجسيمة في فتوح المغرب، التي لم يضحوا بمثلها في أي بلد آخر فتحوه، لم تذهب سدى، وبفضلها دانت كل بلاد المغرب لحكم الإسلام، ودخل البربر أفواجا في دين الله. ولم يكتمل القرن الأول الهجري، حتى كانوا قد صاروا جميعا مسلمين صادقين في إسلامهم، ومتحمسين لرفع رايته، أكثر من تحمس العرب أنفسهم، بل وتعرّبوا وصاروا يتحدثون العربية لغة القرآن والسنة، ويكتبون بها ويخطبون بها بفصاحة، واكتسبوا ما تفيده تلك اللغة من تفكير وتعبير، فصارت لهم العقلية العربية نفسها، وصار يوجد فيهم الفقهاء والشعراء والخطباء.
كذلك صارت حياتهم ومعاملاتهم قائمة على أساس الشريعة الإسلامية. ولولا الإسلام لما بقيت للعروبة بقية في هذه الربوع، التي ظلت على مرّ العصور هدفا للحملات الصليبية المتعاقبة، وحسبك 130 عاما استيطانا مسعورا، وتغريبا مسموما، وفرنَسَة حاقدة في الجزائر. ودخول العروبة إلى هذه الربوع في ظل الإسلام، هو الذي ضمن لها المقومات الأساسية، من لغة وحضارة، وفكر وثقافة، ودعم هذه المقومات بالروح والعقيدة. ومن هذا المنطلق، حفظ الإسلام للعروبة في شمال أفريقيا مواقف وبطولات على مر العصور، وأنجب لها أبطالا وقادة وبُناة حضارة.
كما أكرم الله العرب المسلمين بعد تلك التضحيات الكبيرة التي قدموها في فتح المغرب، التي تُوّجت بإسلام هذا الشعب الأبيّ الشجاع (البربر)، بفتح إسبانيا التي أدّى البربر -الذين آمنوا بدين الله بصدق وحمية، وانتقلوا من الهامشية إلى الفاعلية- دورا كبيرا وملموسا في فتحها، من خلال حملة عسكرية، كان على رأسها طارق بن زياد البربري، وذلك حبا للعقيدة وتضحية من أجلها، لا طمعا في مغنم، أو حرصا على جاه.