حين تخفق الخوارزميات في بلاد خوارزم

حين تخفق الخوارزميات في بلاد خوارزم

لقد وصلت إلى وجهتك.. هكذا قالت لنا خوارزميات غوغل في مدينة سمرقند الأوزبكية، لكن المفاجأة أن لسائقنا شهريار بيك ذكاء فطريا يدفعه بحكم الخبرة إلى التخمين بأن وجهتنا هي موقع آخر.

صحيح أننا على بعد كيلومترات فقط من خوارزم مهد مكتشف تلك الروابط العبقرية الممتدة بأرفع النسب اليوم للذكاء الاصطناعي إلا أن علينا أن نخضع بحكم التجربة للذكاء الفطري في انتظار التفاصيل.

المسافة بين الموقع الذي اختاره الذكاء الاصطناعي والفطري مئات الأمتار فقط، فالأول أرشدنا إلى صرح زعيم البلاد المتوفى حديثا إسلام كريموف، وذكاء شهريار بيك يدرك به أن مقصدنا ضريح شاه زندا الوجهة السياحية المعروفة.

بضعة مئات من الأمتار فقط، لكن من قال إن المسافات تقاس دائما بالأمتار؟

الأول زعيم طوى بجبروته نحو ثلاثين عاما تلت الاستقلال عن الشيوعية مستخدما الكثير من أدواتها، والآخر هو مقام الصحابي الجليل قثم بن العباس ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعشرات من تابعيه من الفوج الأول من الفاتحين الأوائل.

قرون عدة مرت على البلاد بين إسلامها الأول وإسلام كاريموف شهدت خلالها حضارات عديدة أنجبت علماء عظماء مثل البخاري والخوارزمي والبيروني وشعراء كبارا كعمر الخيام، لكنها أنجبت أيضا غزاة ملؤوا الأرض دماء على خطى رمزها الوطني تيمورلنك

بين زمانين

“مياه كثيرة مرت تحت جسور سمرقند وبخارى خلال الفترة الممتدة بين الزمنين” يقول مرافقنا السياحي، فنهر جيحون الذي وهب لهذه البلاد الكثير من أسرار الحياة لم يعد مؤشرا على الحاجز الجغرافي الذي يقسم آسيا، بل تحول لاحقا إلى ممر عالمي للتواصل سيعرف لاحقا باسم “طريق الحرير”.

استعصت جغرافيتها على اليونانيين والفرس، فسموها بلاد ما وراء النهر في مؤشر على إكراهات الجغرافيا، لكنهم وجدوا لاحقا من حوله سبيلا عندما شاءت قوانين التجارة أن تعبره القوافل بين الصين وأوروبا.

ورث المسلمون ذلك المصطلح عن أسلافهم، لكنهم تحايلوا عليه لاحقا حين اقتضت حركة المد الإسلامي توسيع كيانهم الجديد.

صحيح أن جغرافيا النهر شكلت عائقا لبعض الوقت، لكنها بالمقابل قدمت للمنطقة خدمتين جليلتين، فقد سمحت بخلق بيئات متجانسة إلى جواره، كما ساهمت في المقابل في توسيع تشعباته وامتداداته حول الأنهار والسواقي وخلقت مدنا وحواضر عديدة في الطريق الالتفافية من حوله.

قرون عدة مرت على البلاد بين إسلامها الأول وإسلام كاريموف شهدت خلالها حضارات عديدة أنجبت علماء عظماء مثل البخاري والخوارزمي والبيروني وشعراء كبارا كعمر الخيام، لكنها أنجبت أيضا غزاة ملؤوا الأرض دماء على خطى رمزها الوطني تيمورلنك.

إلهامات التاريخ

لم يعد النهر مانعا جغرافيا، فصنعت البشرية الأسوار والجدران والأيديولوجيات، صمدت لعقود بالحديد والنار وأدوات القمع الشيوعية ثم انهارت من جديد أمام تأثير ثقافي واقتصادي كاسح، فما الذي بقي من تأثيرها بعد نحو ربع قرن من تفكك الاتحاد السوفياتي؟

ترك تاريخ البلاد لها إرثا متنوعا من مصادر الإلهام وترك لشعبها طيفا واسعا من الاختيارات تتوزع في اختيار مساراته.

أحفاد قثم والبخاري والترمذي والخوارزمي والبيروني يرون فيها امتدادا لبعدها الحضاري في العالم الإسلامي، وأحفاد تيمور يرون فيها مساحة واسعة للاختراق والتأثير الاقتصادي والثقافي في العالم على نحو أوسع، وثمة في الوسط طرف ثالث قانع بالوضع الراهن ولا يرى البلاد بحاجة للانفتاح على الأحلاف أو حتى على الاقتصاد العالمي.

“تعدنا الحكومات بأن السياحة ستفتح لنا فرصا اقتصادية” يقول مرافقي “لكنها بالمقابل ستفتح عيون المستثمرين على قطاعاتنا الحيوية والعقارات وسترتفع الأسعار كما شهدت دول عدة من حولنا، ولذلك لا حاجة بنا إلى سوق سياحية نشطة”، وهو بذلك يعبر عن موقف معتبر وسط قطاعات من السكان، أتحدث عن أوزبكستان، والتحليل قد ينطبق على معظم دول هذه المنطقة التي وجدت نفسها فجأة قبل أكثر من ربع قرن دون سياسة خارجية واضحة الأركان أو هدف قومي جامع لشعوبها التي أدخلت بالقمع بوتقة الاتحاد السوفياتي من باب النفوذ والاقتصاد دون أن تنسجم يوما مع هويته أو تاريخه.

يتنافس صنفان من اللحم يؤشران على مزاجين مختلفين الأول هو لحم الخروف بكل تفرعاته وتقطيعاته، والآخر هو لحم الخنزير الذي يشكل علامة على مكون مختلف من مكونات ديمغرافية هذه البلاد

سوق اللحوم في كازاخستان وصراع الهوية

تتباين الظروف والواقعية وخارطة التحالفات الدولية في التنافس على هذه المنطقة ويشوب ذلك كثير من التكهنات غير الآمنة في ظل تغير موازين القوى عالميا، ولذلك يبدو من الأسلم مراقبة المزاجات الشعبية بطريقة مختلفة من خلال الأسواق ومؤشرها الأكثر صدقا في التعبير عن الحياة اليومية للسكان.

في ألماتا العاصمة الاقتصادية لكازاخستان يفتح السوق عينيك على مؤشرات عديدة على نمط الحياة والسكان، حيث تتناسق الخضار والفاكهة وتتعايش جبنا إلى جنب مع الفواكه المجففة.

لا شيء ينافس التفاح في صدارة السوق، فهذه الفاكهة تسمى “ألما” وقد وهبت للمدينة اسمها حيث تتدلى ثمارها بسخاء على أشجارها وتتساقط جنية على أطرافها لكنها تترك لسوقها ثمارها الكبيرة لتتزاحم عندها أقدام الزبائن.

إلى جانب نيسا بيجم بائعة التفاح يقف صف طويل من سيدات كازاخستان، وبضاعتهن هي الفواكه الطازجة المعدة بعناية لاجتذاب أعين السياح وما تحويه محافظهم.

في مقابل ذلك الصف تتنافس الفواكه المجففة بتشكيلة تتجاوز ما يخطر ببالك عادة من فاكهة قابلة للتجفيف، فقد علمهم سخاء الطبيعة أن يبتكروا طرقا لحفظها وحملها للسوق على بعد مئات الكيلومترات.

خلف هذه الفاكهة المجففة المحتفظة برونقها وألوانها الزاهية يقف العشرات من التجار الأوزبك والطاجيك حملوا معهم جهد شهور من الزراعة والتجفيف والتنقل ليصلوا بها إلى ألماتا المنتعشة اقتصاديا مقارنة بالبلدان التي وصلوا منها.

وعلى مقربة من الفريقين يتنافس صنفان من اللحم يؤشران على مزاجين مختلفين، الأول هو لحم الخروف بكل تفرعاته وتقطيعاته، والآخر هو لحم الخنزير الذي يشكل علامة على مكون مختلف من مكونات ديمغرافية هذه البلاد.

نسبة معتبرة من سكان هذه البلاد من أصول روسية تزيد وتنقص حسب القرب الجغرافي من الحدود الروسية وحسب المزاج الشعبي الذي يبدو متسامحا حينا وأقل تسامحا حينا آخر.

نفوذ ديمغرافي أملته عقود من التداخل السياسي يتمثل في نحو 10% في أوزبكستان ونحو 30% في كازاخستان يمثلون بلغتهم وتاريخهم نفوذا مهما في تشكيل مستقبل البلاد على المدى المنظور.

“أنا لا أحب هؤلاء الروس” يقول مرافقي الكازاخي “إنهم ينظرون لنا باحتقار في بلادنا” إن كنا لا نعجبهم فليعودوا من حيث جاء أجدادهم”.

لا يبدو الأمر بهذه السهولة فمئة من عام من المصير المشترك وحدود مشتركة صنعتها الجغرافيا منذ الأزل لن تتغير بمجرد نزوة غضب عابرة هنا أو حتى موقف سياسي من هذا الطرف أو ذاك.

بالفعل استطاعت بعض الدول تخفيف ارتباطها بروسيا ثقافيا عبر الانتقال للحروف اللاتينية كما فعلت أوزبكستان التي تخلت عن الحروف الروسية، لكن دولا أخرى لا تملك هذا الترف، فتراها تقدم رجلا وتؤخر أخرى لأن رياح السياسة والنسيج الاجتماعي والاقتصادي الهش لا يسمحان بقفزات غير محسوبة.

تراقب تركيا المشهد عن قرب وتتحرك بحذر شديد، فكثير من هذه الشعوب تشكل عمقا تاريخيا وثقافيا مشتركا، لكنها تخشى من الاحتكاك مع الميول الروسية والنخب السياسية التي لم تنعتق بعد من تأثيرات الكرملين.

كما يرمق المشهد برمته العملاق الإقليمي المهيمن المتمثل في الصين التي تربطها حدود مشتركة مع بعض هذه الدول وتراودها أحلامها في استعادة طريق الحرير ومبادرة الطريق.

خصوصية الخيار الثالث

لم ينته حديثنا عن السوق ولا حتى عن سوق اللحم فيه، فبين لحم الخروف وزبائنه ولحم الخنزير وباعته ثمة صنف ثالث وهب لهذه المنطقة خصوصيتها وهو لحم الحصان الذي تميزت به شعوبها وأولته على موائدها من الطعام والشراب ما يمكن أن يكون بوابة لهويتها الخاصة بعيدا عن المساحات الضيقة التي تفرضها بدائل لحم الخراف والخنازير.

لا يبدو لحم الحصان كافيا ليكون القاسم المشترك بين ثقافات هذه البلاد ولا حتى مشهد الباعة الأوزبك والطاجيك في السوق الكازاخي، فالمصالح والمواقف وما يبدو حديثا عن تحالفات وتكتلات تتحول أحيانا إلى اشتباك مسلح شهدت بعضا منه العلاقات الأوزبكية القرغيزية في أكثر من مناسبة على خلاف حدودي هنا أو مخاوف ديمغرافية هناك.

ووسط هذه التباينات يتمدد نفوذ إيراني وإسرائيلي بمصالح اقتصادية وتأثيرات دفاعية دون أن يحسم أي منها اللعبة لصالحه مع مناخ دولي لا يبدو مستعجلا على استقطاب هذه المكونات أو ربما لا يرى فيها ثقلا إستراتيجيا في هذه المرحلة.

كما تتباين المقدرات الاقتصادية لكل دولة على حدة، لكنها تحوم حول الدخل المتوسط للفرد العادي يرتفع لأعلى المتوسط في دولة مثل كازاخستان وينخفض لأدنى المتوسط في قرغيزيا مثلا.

هذا التباين تجسره أحيانا حركة انسيابية نسبية بين مواطنيها يسمح للأوزبكي والطاجيكي مثلا بأن يشتغلا في أسواق كازاخستان كما ذكرنا، وتنوع في المقدرات الاقتصادية يسمح لها بالتعاون إن توفر القرار السياسي الذي لا يبدو في كامل حريته لاتخاذ قراراته في هذه المرحلة.

وسط هذه التباينات يتمدد نفوذ إيراني وإسرائيلي بمصالح اقتصادية وتأثيرات دفاعية دون أن يحسم أي منها اللعبة لصالحه

السؤال الثقافي الأصعب

يرجوني أكمل الدين بائع المكسرات في سوق العاصمة الأوزبكية طشقند أن أتلو عليه آيات من القرآن الكريم بصوتي، ويراقب عن قرب مخارج الحروف محاولا محاكاتها بحركات لا إرادية من فهمه، ثم يطلب مني إعادتها مرة أخرى على طريقة عبد الباسط ويغريني بخصم خاص لقاء ذلك.

لا يبدو حماس أكمل الدين هو النمط الغالب من المشاعر تجاه الدين، فالسؤال الثقافي وتعريف الهوية لم يحسما بعد في كثير من القطاعات، خاصة النافذة منها، والسلطات تغض الطرف عن انتعاشة دينية تشهدها الهوية الإسلامية وتراقب بحذر حدودها وجذورها.

تسهم في دعمها أحيانا عبر مساجد ضخمة تشيدها الدولة انسجاما مع المد الشعبي، لكنها تتخوف من تداعياتها على نسيج هش لا يزال يحتفظ بمكون روسي مسيحي بين جنباته يزيد وينقص بين دولة وأخرى.

في قرغيزيا وأوزبكستان يخبرك أهل البلاد عن اكتظاظ المساجد بالمصلين في أيام الجمعة رغم أنه يوم عمل رسمي في جميع هذه الدول، وترى مظاهر الحجاب بادية في كثير من حواضرها بأنماط متعددة يعكس كل حجاب منها ثقافات متعددة تتراوح بين التقليدي والأكثر التزاما، إلى جانب مظاهر الحشمة البادية عموما على الملابس.

في ألماتي تحتل الأسواق جانبا كبيرا من المدينة، وتحتل رفوف الخمور حيزا كبيرا من كل منها في بلاد يشكل المسلمون نحو ثلاثة أرباع سكانها، ولكن رغم حركتي الواسعة في أرجائها لم أسمع الأذان طوال أيامي الثلاثة هناك ولم ألمح مسجدا عبر شوارعها الواسعة المترامية وبشهادة خرائط غوغل، فإن أقربها في العادة كان يبعد كيلومترات.

باستثناء الظاهر بيبرس يغيب العرب عن المشهد سوى في مؤسسة إغاثية هنا أو سائح عربي هناك رغم أن ثمة حفاوة تشي بها لغة العيون والإشارة التي تسعى لإطالة أي حوار مع من يبدو أنهم من العرب في جنبات الأسواق الشعبية

بين الظاهر والخفي

“لقد أبعدتنا السياسة واللغة عنكم على مدى عقود عدة” تقول سامال توليوبايفا الباحثة الكازاخية في الشأن السياسي “رغم كل ما يجمعنا من ثقافة وتاريخ مشترك”، ويعبر عن المعنى نفسه الكثيرون بلغة الحال بعد أن تعجز لغة المقال.

ولا يبدو وسط هذا المشهد أن ثمة عالما إسلاميا معنيا بالتواصل مع هذا المجال الجغرافي أو السكان سوى مبادرات محدودة من تركيا أو إيران.

وبينما تتخذ المبادرات التركية شكلا ثقافيا مدفوعا بالثقافة المشتركة على شكل مراكز لتعليم اللغة التركية وعلى هامشها مساجد وكليات للإلهيات تتخذ إيران مدخلا لها عبر الممرات الاقتصادية والتأثير الدبلوماسي.

في مطلع هذا العام أعادت السلطات المصرية افتتاح مسجد الظاهر بيبرس بمناسبة مرور 800 عام على ميلاده بعد أعمال الترميم على نفقة الدولة الكازاخية التي رأت فيها مركزا إشعاعيا يخلد واحدا من عظماء تاريخها باستثناء الظاهر بيبرس يغيب العرب عن المشهد سوى في مؤسسة إغاثية هنا أو سائح عربي هناك رغم أن ثمة حفاوة تشي بها لغة العيون والإشارة التي تسعى لإطالة أي حوار مع من يبدو أنهم من العرب في جنبات الأسواق الشعبية.

في مرفق سياحي رأيت ذلك عن قرب مع مصور شاب، سألناه عن مكان للصلاة فحاول المساعدة دون جدوى، غاب عن ناظرنا فافترشنا الأرض للصلاة، ليعود بعدها من جديد وقد كتب لنا عبر تطبيق غوغل مترجما من الروسية عبارة واحدة تقول: تقبل الله صلاتكم.

ما عبرت عنه الجملة المختصرة دون أن تقوله صراحة هو أنه رغم المسافات فإنه حين تتوفر النية والعزم لن نعدم وسيلة للتواصل ولو بلغة الخوارزميات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *