يستحيل عمليا تحديد مكان وسرعة الإلكترون في الوقت ذاته وبالدقة نفسها، وإنما نفترض احتمالية وجود الإلكترون في هذا المكان أو ذاك؛ وذلك وفقا لمبدأ عدم التأكد الذي صاغه أول مرة الألماني عالم الفيزياء النظرية فيرنر هايزنبرغ عام 1927.
يعد هذا المبدأ من أهم مبادئ “نظرية الكم”، فهل يمكن التحقق من هذا المبدأ تجريبيا بعد مرور نحو 100 عام؟ هذا ما أشعل همة العالم المصري محمد ثروت حسن ليسبر أغوار هذا العالم الكمومي الغامض ويحقق حلم التحكم في الإلكترون؛ أحد أقل الجسيمات وزنا وأعلاها سرعة.
أسرع مبادل ضوئي
في دراسة نُشرت حديثا وظهرت على الغلاف الرئيسي لدورية “ساينس أدفانسز” (Science Advances) في 22 فبراير/شباط الماضي، يقترب حسن (أستاذ الفيزياء والضوء بجامعة أريزونا بالولايات المتحدة) خطوة جديدة نحو تحقيق حلم التحكم في الإلكترون. فبعد إثبات قدرة “ليزر الأتو-ثانية” (Attosecond Laser) على إحداث تبديل في البنية الإلكترونية لمادة السليكا العازلة وتغيير آني لخصائصها الضوئية؛ توصل العالم المصري وفريقه البحثي إلى اكتشاف تقنية جديدة لنقل البيانات الرقمية هي الأسرع في العالم حتى الآن.
هذه التقنية الجديدة عبارة عن مبادل ضوئي (ترانزيستور) يعمل بتقنية ليزر الأتو-ثانية. ومن المتوقع أن يحدث هذا الاكتشاف طفرة في مجال ترميز ونقل البيانات الرقمية الثنائية.
وقبل أن نتوغل أكثر وأكثر في الأساس العلمي لهذه التقنية علينا أن نعرف أولا “الأتو-ثانية”.
ما الأتو-ثانية؟
الفمتو- والأتو-ثانية مقاييس زمنية تستخدم لقياس حركة الجزيئات والذرات والإلكترونات فائقة السرعة، التي يتعذر رصدها بالتقنيات التقليدية. واستطاع العلماء قياس حركة الجزيئات داخل المواد عبر مقياس “الفمتو ثانية”؛ أما على المستوى الذري فقد نحتاج إلى مقياس زمني أصغر بكثير لقياس حركة الإلكترونات التي تتميز بوزن لا يذكر وحركة فائقة السرعة؛ ومن هنا ظهر مقياس الأتو-ثانية، بوصفه أسرع مقياس زمني معروف حتى الآن.
ولمزيد من التوضيح، فإن 1 فيمتو-ثانية يساوي جزءا من الثانية يساوي 10 مرفوعة بقوة -15، بينما تساوي الأتو-ثانية جزءا من الثانية يساوي 10 مرفوعة بقوة -18. وإذا أردنا تخيل هذه النسبة، فيمكننا القول -على وجه التقريب لا الدقة- إن نسبة الأتو-ثانية للثانية الواحدة تقارب نسبة الثانية لضعف عمر الكون الذي نعرفه؛ إلا أن الأتو-ثانية أقصر بكثير.
طفرة في مجال فيزياء الليزر
لهذا الاكتشاف الواعد قصة يرويها العالم المصري محمد حسن الذي قال -في حديث للجزيرة نت- إن العالم الراحل أحمد زويل استخدم عام 1984 الليزر لقياس حركة الجزيئات خلال التفاعلات الكيميائية، واستحق هذا الجهد البحثي نوبل في الكيمياء، ودشن حجر الأساس للعديد من التطبيقات المختلفة من بعده.
واهتمت عدة مجموعات بحثية بهذه التقنية حتى تمكن الفيزيائي النمساوي فيرينز كراوس عام 2001 من قياس نبضة ضوئية في منطقة طيف فوق البنفسجي العميقة تدوم أقل من نصف فيمتو-ثانية واحدة، ومن هناك دأب الباحثون على استخدام نبضات الأتو-ثانية تلك لتتبع حركة الإلكترونات داخل المادة.
لا يمكننا التحكم في ما لا نراه
“لا يمكننا التحكم في ما لا نراه، ولذلك كان الحلم هو تصوير حركة الإلكترونات داخل الذرة، التي بدورها تحكم كل ما يحدث في الطبيعة من حولنا”، هكذا يصف حسن حلمه الذي بدت للعيان أهميته على أرض الواقع.
ويستطرد العالم المصري “لرصد هذه الحركة كان من اللازم تطوير جهاز ليزر تكافئ سرعته سرعة تلك الإلكترونات أو تفوقها لنتمكن من تصوير تلك الحركة من بدايتها وحتى نهايتها، للحصول على معلومات تساعدنا على فهم السلوك الحركي لتلك الجسيمات متناهية الصغر. وفي عام 2016، تكللت جهود مجموعتنا بالنجاح، فقد استطعنا لأول مرة التوصل إلى تقنية جديدة، حيث تمكنا من التحكم في سرعة تلك الحركة باستخدام جهاز ليزر بسرعة الأتو-ثانية. وكانت هذه النتائج بمثابة طفرة قوية في فيزياء الأتو-ثانية”.
خطوة جديدة على الدرب
ويضيف حسن “تتناول الدراسة الجديدة شقين بحثيين يكملان بعضهما؛ فقد قمنا باستغلال ما توصلنا إليه سابقا من التبديل الانعكاسي للحالة الفيزيائية للسليكا المنصهرة باستخدام الليزر، أي تحويلها من مادة عازلة لمادة موصلة للكهرباء لإثبات النقل الضوئي في زمن الأتو-ثانية، وهذا الشق الأول. أما الشق الآخر، فقد أثبتنا تحميل البيانات على نبضات شعاع الليزر والنقل الضوئي لتلك المعلومات بمعدل تردد نبضات ضوئي فائق وغير مسبوق”.
ويضيف “تتيح هذه القدرة التحكم في تبادل الإشارات الضوئية والتحكم فيها بالتشغيل أو الإيقاف؛ مما يوفر ترميزا فائق السرعة للبيانات الرقمية باستخدام أشكال موجية ضوئية متراكبة”.
من المعلوم أن الأجهزة الإلكترونية الحديثة قائمة على تبادل الإشارات الكهربية باستخدام الحقول الكهرومغناطيسية للترددات اللاسلكية على مقياس زمني نانوثانية، مما يحد من معالجة المعلومات بسرعات غيغاهيرتز. ويتيح المبادل الضوئي الحديث تبادل الإشارات الضوئية المنعكسة والتحكم فيها إما بالسماح أو المنع بسرعة نقل في مقياس أتو-ثانية.
ويمهد هذا العمل الطريق لتطوير مبادلات ضوئية فائقة السرعة لنقل البيانات بسرعة بيتا-هيرتز وما بعدها، التي يمكنها توظيف خواص الضوء المادية والموجية لنقل المعلومات محمولة على نبضات الليزر إلى أطراف بعيدة الغور في الفضاء، مما سيفتح -على سبيل المثال- حقبة جديدة لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات لاستخدامها في الاتصالات الفضائية بين الأرض وأي مركبة فضائية على كوكب المريخ، وربما إلى كواكب على مسافات أبعد بكثير.
العلم يسبق التطبيق
سألنا البروفيسور محمد حسن عن قيود تطبيق هذه التكنولوجيا وإخراجها في شكل منتج صناعي متاح للاستخدام العام، وكانت إجابته بأن “حدود هذه التكنولوجيا في الصناعة وليست في المختبر. فمن حيث قابلية التطبيق استطعنا نقل بيانات رقمية عبر 20 ألف نبضة ليزر في زمن الأتو-ثانية. ويلزم للوصول إلى النتيجة نفسها على مستوى صناعي تطوير رقائق إلكترونية بالغة الدقة، وهذا ما ننتظره من الشركات، ونشير هنا إلى المحاولة التي قامت بها شركة “إنتل” (Intel)، ولكن ما زال هناك الكثير للقيام به”.
وتابع “أظهرت قياساتنا أيضا إمكانية حدوث النقل الضوئي الفائق للبيانات في ظل الظروف العادية، مما يسمح بتصميم مبادل ضوئي مضغوط ومدمج في رقاقة إلكترونية، ولكن هنا تقف وظيفة العالم من جديد، عند إثبات صحة المبادئ النظرية تجريبيا، وهذا ما فعلناه، أما إمكانية تصنيع شريحة إلكترونية لتناسب معدل تكرار فائق لنبضات الليزر فهي وظيفة الصناعة أيضا”.
اكتشاف واعد لتطبيقات كثيرة محتملة
وإجابة عن سؤالنا حول التطبيقات المحتملة لتقنية ليزر الأتو-ثانية على مستوى العلوم والتكنولوجيا، جاء رد العالم المصري مبشرا للغاية، ففي مجالي الفيزياء والكيمياء مثلا “سيساعدنا على استكمال مسيرتنا في فهم أكبر لحركة الإلكترونات وتوصيفها، مما سيثمر تحكما في مسار التفاعلات الكيميائية ونواتجها بالكامل، وسيفتح مثل هذا الإنجاز الباب على مصراعيه لإنتاج الكثير من المواد الكيميائية عصية التخليق في المختبرات بالطرق الكيميائية العادية؛ لأننا في هذه الحالة لن نحتاج لمحفزات التفاعل ليسير في اتجاهه التلقائي، فقد يساعدنا الليزر في توجيه الإلكترونات حيث نريد وبالسرعة التي نقرر”.
وأضاف “أما في مجال العلوم الحيوية، فإن ليزر الأتو-ثانية ممكن التطبيق في الطب الشخصي، الذي يرتكز على جمع بيانات دقيقة ومفصلة عن الحمض النووي (DNA) والعوامل الوراثية والبيئية الخاصة بكل فرد على حدة، بهدف تصميم إستراتيجية للوقاية والعلاج خاصة بهذا الفرد. ومن خلال ليزر الأتو-ثانية بإمكاننا التحكم في تفاعل الدواء مع الحمض النووي لكل شخص فنزيد كفاءة الدواء؛ وبالتالي نسبة الشفاء. وبالحديث عن التطبيقات التكنولوجية، فإن إنتاج رقائق إلكترونية ضوئية بمقياس الأتو-ثانية سيحدث ثورة في تطوير التكنولوجيا بشكل عام إذ إنها أساس كل شيء”.
ماذا بعد؟
وعن خطواته البحثية القادمة، قال البروفيسور محمد حسن “نسعى لتصوير وتوصيف دقيق لحركة الإلكترون في الأبعاد المكانية الثلاثة، إضافة إلى البعد الزماني الرابع، وسيمكننا هذا من اختبار وتمحيص بعض المبادئ الفيزيائية والنظريات الكمومية التي لم يتح التحقق منها تجريبيا منذ القرن الماضي وحتى الآن. على سبيل المثال، مبدأ عدم التأكد لهايزنبرغ”.
ويؤمن البروفيسور حسن بقوة العلم ودور الفيزياء التجريبية في صياغة جديدة للواقع عن طريق تحويل النظرية إلى حقائق ملموسة داخل المختبرات.