قد يسهم الهواء الملوث في الإصابة بالربو وغيره من الأمراض، والخطوة الأولى نحو مكافحة آثاره هي المراقبة المستمرة والدقيقة.
ولتحقيق ذلك، كشف باحثون من البرازيل عن نظام مبتكر، وهو عبارة عن مختبر على طائرة بدون طيار (درون)، مصمم لاكتشاف وتحليل مستويات الملوثات في الوقت الفعلي في أثناء الطفو في الهواء، وهو تطور يعد ثوريا، لأن أنظمة الرصد التقليدية تقتصر على القياسات الأرضية، وغالبا ما تتجاهل الملوثات التي ترتفع إلى أعلى في الغلاف الجوي.
وخلال الدراسة المنشورة في دورية “أناليتيكال كيمستري”، التابعة للجمعية الكيميائية الأميركية، استخدم الباحثون من الجامعة الفدرالية في أوبرلانديا بالبرازيل، نظامهم الجديد في اكتشاف وتحليل مستويات غاز كبريتيد الهيدروجين ذي الرائحة الكريهة، الذي يطفو في الهواء.
ويُعد كبريتيد الهيدروجين (H2S) غازا سيئ السمعة، بسبب رائحته الكريهة التي تشبه رائحة البيض الفاسد، وعلى الرغم من وجوده بشكل طبيعي في مياه الآبار والانبعاثات البركانية، فإنه منتج ثانوي شائع في مصافي النفط ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، ولا يعمل الغاز كمهيج فحسب، بل قد يكون ساما أيضا بكميات كبيرة.
مزايا التكنولوجيا الجديدة
كانت الطرق التقليدية لقياس كبريتيد الهيدروجين وملوثات الهواء الأخرى تعتمد في المقام الأول على الأرض، مما يستلزم تجهيزات باهظة الثمن مثل الأقمار الصناعية لإجراء قياسات على ارتفاعات أعلى.
وفي خطوة رائدة، سعى الباحث جواو فلافيو دا سيلفيرا بيتروتشي وفريقه البحثي، بمعهد الكيمياء بالجامعة الفدرالية في أوبرلانديا بالبرازيل، إلى التغلب على هذه القيود، وقال في تقرير نشره الموقع الإلكتروني للجمعية الكيميائية الأميركية “أردنا إنشاء مختبر على طائرة بدون طيار، بحيث يكون ميسور التكلفة، ولا يمكنه فقط أخذ عينات من غاز كبريتيد الهيدروجين في أثناء الطيران في الهواء، بل يمكنه أيضا تحليل البيانات والإبلاغ عنها في الوقت الفعلي”.
واستخدم الباحثون لتحقيق ذلك تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد لتصنيع جهاز مخصص للرصد والتحليل، إذ تم ربطه بالجزء السفلي من طائرة بدون طيار “كوادكوبتر” متاحة تجاريا.
ويستخدم هذا الجهاز المبتكر تفاعلا كيميائيا فريدا يشتمل على “كبريتيد الهيدروجين” وجزيء أسيتات فلوريسئين الزئبق المتوهج باللون الأخضر، ويثير ضوء (الليد) الأزرق الموجود على متن الطائرة هذا التفاعل، مما يتسبب في انخفاض كثافة الفلورسنت الأخضر الذي يتم اكتشافه وقياسه كميا.
ومن أبرز مميزات هذه التكنولوجيا هي خصوصيتها العالية، إذ لا تؤثر ملوثات الهواء الأخرى على التفاعل الكيميائي.
اختبار عملي
ولاختبار ابتكارهم الجديد، أطلق الفريق البحثي طائرة بدون طيار عند محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي، وأخذوا عينات من الهواء على ارتفاعات مختلفة (نحو 30 قدمًا إلى 65 قدما) في أوقات مختلفة من اليوم.
وقام نظام الكشف الخاص بهم بنقل النتائج التي توصلوا إليها عبر البلوتوث إلى الهاتف الذكي، مما سمح لهم بالمراقبة في الوقت الحقيقي، ومن المثير للاهتمام أن الباحثين لاحظوا زيادة ملحوظة في تركيز كبريتيد الهيدروجين مع صعود الطائرة بدون طيار، على الرغم من أن المستويات لم تتجاوز أبدا النطاق المقبول.
ويعتقد الباحثون أن هذه التكنولوجيا تحمل وعدا بالتكيف لاكتشاف ملوثات الهواء الأخرى في المستقبل، وبالتالي توفير أداة قوية في المعركة المستمرة ضد التدهور البيئي.
من جهته، يقول بيتروتشي -في تصريحات خاصة للجزيرة نت عبر البريد الإلكتروني- “لقد عملت مع كبريتيد الهيدروجين، باعتباره مركبا جويا مهما ينطلق من مصادر بشرية وطبيعية، ولي أبحاث تتعلق بهذا الغاز لأكثر من 10 سنوات، ولدي الخبرة في هذا المجال، ولذلك، تم اختياره كدليل على دقة نظامنا الجديد، ولكن يمكن تكييف النظام للعمل مع غازات أخرى، ونحتاج فقط في هذا الحالة إلى تغيير الكاشف”.
وعن الفارق المهم الذي يمكن أن يحدثه نظامهم الجديد، يوضح بيتروتشي أنه “عادة ما يتم أخذ عينات من كبريتيد الهيدروجين في الميدان وتحليلها في المختبر، وعادةً ما تكون طريقة أزرق الميثيلين هي الطريقة الأكثر ملاءمة لتحديد القياس اللوني لكبريتيد الهيدروجين في المختبر، والفارق هو أن نظامنا يأخذ عينات الغاز من أماكن مختلفة، ويقيسها ويقدم النتائج في المنصة نفسها، من دون الحاجة إلى خطوات إضافية”.
وحتى الآن، فإن هذا النظام غير جاهز للاستخدام التجاري، ويقول بيتروتشي “قمنا للتو بتصنيع النموذج الأولي للدراسات العلمية، وربما يمكننا في المستقبل أن نسعى للتعاون من أجل التسويق”.
ويتوقع بيتروتشي أن تتم إتاحة نظامهم بأسعار مخفضة عند تسويقه، إذ لم يتعد سعره عند تجهيزه معمليا 100 دولار، من دون سعر الطائرة بدون طيار.
خطورة كبريتيد الهيدروجين
يوصف كبريتيد الهيدروجين، الذي عمل عليه بيتروتشي ورفاقه، بأنه واحد من أخطر الغازات الخطيرة على صحة الإنسان.
وتكشف دراسة لباحثين سعوديين من قسم خدمات الطب الباطني بمركز الظهران الصحي، التابع لشركة أرامكو السعودية، عن أن هذا الغاز هو المسؤول عن عديد من حوادث التعرض للسموم المهنية، وخاصة في صناعة النفط.
وتوضح الدراسة، التي أتاحها موقع المركز الوطني للمعلومات التقنية الحيوية بأميركا، أن التأثيرات السريرية لكبريتيد الهيدروجين تعتمد على تركيزه ومدة التعرض له، ولذلك من المهم مراقبة معدلات انتشاره، حتى لا تخرج عن الحدود المسموح بها.
وتضيف الدراسة أن “كبريتيد الهيدروجين قد يكون قاتلا على الفور عندما تزيد التركيزات عن 500-1000 (جزء في المليون)، لكن التعرض لتركيزات أقل، مثل 10-500 (جزء في المليون)، يمكن أن يسبب أعراضا تنفسية مختلفة تتراوح من التهاب الأنف إلى فشل الجهاز التنفسي الحاد، كما قد يؤثر كبريتيد الهيدروجين أيضا على أعضاء متعددة، مما يسبب اضطرابات مؤقتة أو دائمة في الجهاز العصبي، والقلب والأوعية الدموية، والكلى، والكبد، والدم”.