- لماذا ينتحر ما يزيد على 700 ألف شخص سنويا، حسب ما أعلنته منظمة الصحة العالمية؟
- كيف نسهم في الحد من تلك الظاهرة المفجعة؟
- ما السر في ارتفاع معدل الانتحار وسط الشباب من عمر 16 إلى 18 سنة وما زالت تداعب أحلامهم الآمال؟
- في كل 40 ثانية يفقد العالم فردا منه انتحارا، فضلا عن 20 محاولة فاشلة.
- وفي ألمانيا قضى 9206 أشخاص على حياتهم العام الماضي، وقد نالت ولاية بافاريا المركز الأول في أعلى عدد حالات الانتحار رغم أنها أغنى المقاطعات في ألمانيا.
السؤال: لماذا يقدم المرء على الانتحار؟
- هل يرى أن حياته ملك له، ومن ثم فله الحق أن ينهيها حين يشاء؟
- هل ضاقت به الدنيا وأحاطت به مصاعبها، فرأى الخلاص الوحيد من معاناته في استقالته من مهمة الوجود؟
- هل فاته حظه من الصحة أو المال، فلم يجد عوضا بعد أن ضاعت فرصته الوحيدة في الابتهاج على الأرض، ولم يعد له حلا سوى قتل نفسه؟
- هل كان يلهث خلف هدف فلم يدركه فظن أن لا قيمة تستحق العيش فبادر ربه بنفسه؟
- هل كان يعاني الوحدة والوحشة، وليس معه جليس يصغي إليه أو نديم يسامره أو صديق يحاوره أو عزيز يبث إليه شكواه ويسمع نجواه؟
- هل استغلق عقله وضاقت نفسه وغلب عليه حزنه وهمه؟
- هل فقد الأمل في حياة كريمة وعيش آمن؟ هل عانى مرارة الحرمان ولوعة الظلم والهوان ولم يجد له نصيرا ولا معينا وظهيرا فقاده اليأس إلى الإقدام على الفتك بنفسه؟
كل ما مضى وغيره من دوافع الانقضاض على الحياة.
أيا كان الأمر فإن من يقضي على نفسه بالموت منتحرا، فإنه يقضي على رفاقه بالموت المعنوي ألما وحزنا وحسرة أبد الدهر.
لقد تملكني الحزن الشديد حينما قرأت قصة الصحفي الأردني الذي حاول الانتحار -منذ عامين- لظروف تعرض لها، وبعد فشل المحاولة والحمد لله بعد تدخل رجال الأمن لا يزال يتذكر الألم الشديد الذي عاشته أسرته، يقول: “لا يزال ابني وأسرتي يتذكرون هذه اللحظة ولا تفارق أذهانهم أبدا، رغم مرور الوقت”.
ويضيف “لايزال ابني الصغير يتألم عندما يتذكر أني كنت سأتركه وحيدا، هذا أقسي ما أشعر به الآن”.
يا الله.. ما هذا الألم.. لقد ذكرني بقصة امرأة سويسرية أقدمت على الانتحار فقطعت شريانها بسبب مرض ألم بها، لولا أن تداركها الله بلطفه ورحمته، وقد أسلمت بعد ذلك بفضل الله بعد حوارات مع طبيبها المعالج الذي كان مسلما، حينها قال لها غاضبا: “أنت أنانية حينما فكرت في نفسك فقط، حينما قدمت راحتك على راحة أطفالك، ولم تفكري في الحزن الشديد والألم الكبير الذي سيصيبهم بعدك”.
تقول الأخت المسلمة السويسرية: “أحمد الله تعالى أن أنقذني، وأتاح لي فرصة جديدة للحياة”، غير أنها لا تستطيع أن تنسى بكاء أولادها حينما علموا بما صنعت، وشعروا بأنهم سيفقدون أغلى من يحبون.
يرشدنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى طريق النجاة من الهموم والأحزان، وذلك إذا صوبنا قلوبنا نحو الآخرة والنجاة من عذابها والفوز بدار الخلود
نمط الحياة المعاصرة
إن نمط الحياة المعاصرة الذي يقدمها صناع الإعلام والدعاية تودي بالشباب إلى التهلكة، نعم… حينما تسود حياة اللذة فقط وخدمة الجسد فقط والحياة الافتراضية التي يعيشها كثير من شبابنا تؤول إلى إصابة كثير من الناس بالاكتئاب والإحباط وتقود إلى انتحار جماعي، وإلا فكيف تصل معدلات الانتحار بين الأطفال إلى 185 طفلا في ألمانيا العام الفائت؟
ما دام أن الشهوات قائدة وعبادة المادة سائدة والدين عن الحياة بعيد، فلسوف يبقى الإنسان في شقاء وينتقل من ظلمة إلى ظلمة.
قال الله تعالى: “ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا” (سورة الكهف- 28).
ما رؤية الإسلام للحياة ؟ وما خطته للوقاية من الانتحار؟
يرى الإسلام أن الحياة دار ألم وابتلاء وليست جنة خالية من المصاعب والمتاعب، ويعلم عقلاء الدنيا أن الدرجات في الدنيا لا تنال براحة الجسد، بل بالكد والتعب ومعاناة المصاعب وركوب المشاق.
كما قال: أبو الطيب المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهم .. الجود يفقر والإقدام قتال
ويقول:
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله .. لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر
وقال:
لا يبلغ المجد إلا سيد فطن .. لما يشق على السادات فعال
والدنيا ليست مستقر المرء بل إنها جولة موصلة إلى دار القرار، وهناك يلقى كل مصيره بما عمل على ظهر هذه الأرض.
قال تعالى: “وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون” (سورة العنكبوت- 64).
والمرء أمام محن الحياة وفوت الفرص المتاحة قد يصيبه غم أو حزن على ما فات منه، فتأتي الآية الشريفة لترده إلى الله تعالى، والإيمان بقدره، واليقين في حكمته.
قال تعالى: “لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور” (سورة الحديد- 23).
وقال تعالى: “وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون” (سورة البقرة- 216).
من غلب على أمره، وقاده المرض النفسي أو ظرف غيب عقله وأذهله عن نفسه فأجهز على حياته، فلعل الله تعالى أن يغفر له
وقد يمر المرء بأزمة مالية أو اجتماعية ضارية يحدث نفسه بالموت ويتمنى أن لو ينزع الله روحه، وتلك من وساوس الشيطان المريد، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لابد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي” متفق عليه.
وإذا كثرت الهموم على الإنسان، وما أكثرها في زماننا فماذا يفعل؟
هل يفتك بعقله من زحمة التفكير؟ هل تذهب نفسه حسرات؟
يرشدنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى طريق النجاة من الهموم والأحزان، وذلك إذا صوبنا قلوبنا نحو الآخرة والنجاة من عذابها والفوز بدار الخلود. فعن الأسود بن يزيد قال: قال عبد الله: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم، يقول: “من جعل الهموم هما واحدا، هَمّ المعاد، كفاه الله هَمّ دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبال الله في أي أوديته هلك” أخرجه الترمذي.
حينما يصاب المرء بداء قاتل ويقول له الأطباء إن أيامك في الدنيا معدودة وفرصك في الاستمتاع بالحياة محدودة، فما عساه أن يفعل؟ كيف يتلقى ذلك الخبر الصاعق؟
لقد كان عظيم الأمل وبعيد الطموح.. الآن.. لم يبق متسع له.. ما الذي يحميه من القهر والموت قبل الموت؟
إما أن يكون له عقل يرشده إلى أن يعيش ما تبقى من عمره في الاستمتاع بما يملك كيفما شاء، أو يكون صاحب رسالة في الحياة يريد أن يقدم للناس شيئا حتى الرمق الأخير من عمره، أو يكون له دين يحجزه من اليأس والإقدام على الانتحار فيصبر صبرا جميلا وهو متأمل في الله تعالى الجزاء الأوفى في الجنة، كما وعدنا سبحانه وتعالى.
غير أن النبي صلي الله عليه وسلم توعد من ينهي حياته بالعذاب في الآخرة.
روى البخاري عن جندب بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة”.
ونحن لا نريد أن نكون قضاة على المنتحر، وحسب الأحاديث الواردة في الباب زجرا لمن يفكر في هذا الصنيع.
وقد ناقش الفقهاء حكم الصلاة على المنتحر، فمنهم من منع الصلاة عليه احتجاجا بترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصلاة على قاتل نفسه، غير أن جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم أجازوا الصلاة عليه، والمراد بامتناع الرسول -صلى الله عليه وسلم- هنا هو الزجر عن اقتراف هذا الإثم العظيم.
ومن غلب على أمره وقاده المرض النفسي أو ظرف غيب عقله وأذهله عن نفسه فأجهز على حياته، فلعل الله تعالى أن يغفر له، كما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر قال: “لما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع، فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة، ورآه مغطيا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وليديه فاغفر”.
ما أرحمك يا رسول الله..
إن الانتظام في قضاء دقائق معدودة كل يوم يذكر المرء فيها ربه ويسبحه ويستغفره لجديرة بأن تمسح الهموم والأحزان وتخفف المتاعب والأثقال عن القلوب الكسيرة
الزاد الروحي ذخيرة الحياة
نعم، حينما يتصل المرء بالله تعالى، فإن ذلك يمنحه قوة في قلبه ويقينا وعزما على الأمل ودفعا لليأس وقناعة بما قضى الله تعالى، وتقليلا من الشغف بالدنيا، والتعلق بالآخرة.
في كتابه “جدد حياتك”، يقول الشيخ محمد الغزالي: “واسمع قول أبي حازم: إنما بيني وبين الملوك يوم واحد.. أما أمس فلا يجدون لذته، وأنا وهم من غد على وجل.. وإنما هو اليوم، فما عسى أن يكون اليوم؟ هذا الفقير الصالح يتحدى الملوك.. إن لذائذ الماضي تفنى مع أمس الذاهب، ما يستطيع أحد إمساك بعضها. والغد في ضمير الغيب يستوي السادة والصعاليك في ترقبه. فلم يبق إلا اليوم الذي يعيش العقلاء في حدوده وحده. وفي نطاق اليوم يتحول إلى ملك من يملك نفسه ويبصر قصده. فما وجه الهوان؟ وما مكان التفاوت؟ على أن العيش في حدود اليوم لا يعني تجاهل المستقبل أو ترك الإعداد له، فإن اهتمام المرء بغده وتفكيره فيه حصافة وعقل”.
إن الانتظام في قضاء دقائق معدودة كل يوم يذكر المرء فيها ربه ويسبحه ويستغفره لجديرة بأن تمسح الهموم والأحزان وتخفف المتاعب والأثقال عن القلوب الكسيرة.
وللإيمان قوة في مواجهة الشدائد والنوازل والقدرة على تحمل المصاعب.
وإدراك المرء أن حياته يتقاسمها غيره يمكنه من البقاء والصبر واحتمال شقاء الحياة.
علينا محاصرة اليأس، العمل على بث الأمل، والتبشير وليس التنفير، ومكافحة المخدرات والجريمة وتقديم الدعم النفسي للأفراد والأسر التي تمر بأزمات نفسية واجتماعية
مسؤولية المؤسسات الإسلامية وغير الإسلامية في الغرب
إن واجب مسلمي أوروبا والعالم أن يقدموا القيم الروحية في صور ونماذج عملية ومبادرات تستهدف المحافظة على روح الإنسان والحد من جشع الاستهلاك، وتحريض الجماهير على التفكير في هموم الفقراء والجوعى حول العالم.
وعلى المؤسسات الدينية غير الإسلامية أن تتداعى جميعا من أجل حفظ حياة الإنسان ومعالجة الأسباب النفسية والاجتماعية التي تفقدنا كل عام ما يقترب من مليون إنسان.
وعلينا محاصرة اليأس، العمل على بث الأمل، والتبشير وليس التنفير، ومكافحة المخدرات والجريمة وتقديم الدعم النفسي للأفراد والأسر التي تمر بأزمات نفسية واجتماعية.
ومن الواجبات تصحيح الوعي وتصويب النظر في مفهوم السعادة ومصادرها بعيدا عن السعادة الزائفة التي لا تصمد أمام ابتلاء بالسراء أو الضراء.