ما قامت أُمّةٌ ولا علا شأنها إلا بالعلّمِ والمعرفة، والعِلّم وحده القادر على أن يضع لها قدماً في ركب الحضارة العالميّة ويدخلها مضمار الثقافة التاريخيّة. وبدونهِ ودون الحرص عليه والاهتمام به تضعف قوتها ويضمحلُّ وجودها ولربما آل حالها لتكون فأر تجاربِ لدول العلم وأمم التقدّم.
في عالمنا العربي نعاني تردياَ شديداً في التعليم -يُستثنى من ذلك دولة أو اثنتين- وانحداراً متسارعاً في كفاءة المؤسسات التعليمية؛ فنقصٌ في وسائل التعليم والتدريب، وافتقارٌ لأساليب التدريس القويم والتلقين السليم، وقلّةٌ ونَدْرة في الكوادر التدريسيّة. ناهيك عن تسلّط الدولة وتحكّمها بالمؤسسة التعليمية والتربوية لتكون أداةٌ تسخرها لنشر أيديولوجيا السلطة وعقيدة الحزب، وتصيرُ المدرسة مكاناً يخرج الطفل منه متشبَِعاً بعقيدة الحزب وتوجهات الدولة، وصورة الأخ الأكبر الذي يراقبنا في كل مكان، تٌحفر في الأذهان وترسم في اللاوعي. تعود جملة أسباب التردّي والانحدار وما نعانيه إلى وجود الدولة العسكريّة المتجذِّرة في معظم العالم العربي. يُخصِّصُ هذا النوع من الدول القسم الأعظم من ميزانيته لقطاعات الأمن والعسكرة وزيادة النفوذ وتقوية السلطة. ويكون نصيب مؤسسات التعليم ومراكز الأبحاث ربع معشار -بأحسن الأحوال -ما يصرف على قطاعي الأمن والعسكرة.
الدولة تُفكِر وتُقرِر
ثلاثة عشر عاما -تزيد في بعض الأحوال- نمضيها بين صفوف المدرسة وفصول الدراسة، زمن طويل ورقم كبير نبذله ونتحمل مشقتهِ وعناءه في سبيل التعلّم والتزود بالمعرفة. مِنهاجٌ التعليم معلوم وكتب الدراسة محددة؛ ندرس منهاجاً من إعداد الدولة، وُضِع وفقاً لعقيدتها وتوجهاتِها، فنتعلّم ما تُريد، ونُلقَّن ما يراه القائد مناسباً، ونتزوّد بالمعلومات والمعرفة بالقدر الذي يُسمح لنا به، لا نخرج عن ذلك قيد أنملة ولا نحيد عنه بكلمةِ أو فكرة. فالدولة تفهم أكثر مِنَّا، وقادرةٌ على تحديد احتياجاتنا المعرفية ومتطلباتنا العلميّة، وهي تعرف بكل تأكيد ما يحتاجه المجتمع من كوادر بشريّة وخبرات مهنية، وما يجب العناية به وما يجب إهماله، الدولة تخطط لكل شيء. علينا فقط كتلاميذ إطاعة الأوامر بحفظ ما بداخل الكتاب وترديد الشعارات. والتفكير! لا لا، لا حاجة لنا به، لا يوجد شيء يدفعنا إلى هذا الأمر الشنيع، فلماذا نتعب أنفسنا ونرهق عقولنا والدولة موجودة والقيادة مأهولة بمن هم كفؤٌ وأهل لذلك.
أيُتوقَع أن يسود جوٌ من الحنان والرفق وتكون الرحمة والليونة مبدآن يُعامل بهما المعلِّم تلميذه في دولةٍ تقمع المدرس صباحاً وتسجن مدير المدرسة مساءاً، وتحترم أهل الجهل وترفعهم، وتهين أصحاب العلم وتُذِلّهُم. من هنا كانت فكرة العنف والشدَّة المتأصِلة في المدارس ومراكز التعليم، جاءت من الدولة العسكرية والسلطة التعسفيّة، القائمتانِ على مبدأي البطش والقهر واستخدام القوة والعُنف، بدورِها انتقلت الفكرة من المؤسسات العسكرية والأمنية إلى مؤسسات التعليم والتربية، فصارت طابِعاً تُعرف به ورمزاً لا ينفكُ عنها.
تكون العصا للمدرس كالظلِّ لواحدنا في اليوم المشمس. يُعاقِب المقصِّر في واجباته ويضرب المشاغب على كلامه وحركاته. أو تعنيفٌ لفظيّ- وقد يكون أسوأ من البدني أو أرحم- ، يصبٌ بها المعلِّم جام غضبه ويخفف من توتره بأصناف الشتائم ومختلف المسبات، يرمي بها فلانٌ أمام ثلاثين من أقرانه غير مكترثِ بوقع كلامه عليه وما سيخلّفه من أثار ونتائج، ولا يعبئ البتة إن كان ضربه سيؤذيه أم لا، المهم أن يضرب ويشتم. -وبالطبع الكلام لا يعُمم على جميع المدرسين-.
الحل في التغيير ونبذ القديم وإعادة البناء من جديد، وهذا ما نسعى إليه ونعمل من أجله إن شاء الله. والوصول لعجلة التغيير واستلام دفة القيادة لإعادة توجيهها من جديد يتطلّب جهداً متواصلاً وعملاً مستمراً. اليوم، ملايين من الأطفال حول العالم العربي محرومين من أسس التعليم الأوليّة. هؤلاء الأطفال هم منارة المستقبل المنتظر والجيل الذي يعوّل عليه البناء من جديد؛ كيف لواحدهم أن يفعل كلّ هذا وهو يجهل إجراء عملية حسابية ويعاني من ضُعفٍ في القراءة والكتابة. ملايين من العقول ستضمر وتضعف ولن تجدي نفعاً في المستقبل في نهضة المجتمع وبناء الدولة إن لم تُزوّد بغذائها المعرفي والعلمي في يومنا الحاضر.
علينا صبُ جُلّ اهتمامنا وتوجيه كل طاقاتنا إلى التعليم والتدريس، وأن نسعى جاهدين لنقدِّم لأولئك الأطفال علماً يجعل منهم بُناة دول وصنّاع حضارة، فلن ينفعنا إلا العلم والحرص على التزود به وتطويره واستخدامه لما في صالحنا وصالح هذا العالم. قدِموا لمن حولكم أفضل أنواع التعليم، وعلِموهم ما تتقنون وتفقهون، واعملوا على دعمِ التعليم والنهوض به أينما كنتم. والعلم عندنا شامِلٌ لعلوم النقل والعقل والحواس، لا ينفردُ بنوعٍ دون الآخر ولا يمكن تجزأته أوتقسيمه، فلا ننفرد بالعلم التجريبي دون العلم الديني، ولا ننفرد بالديني دون التجريبي، نأخذ بأجمعهم، ونستخدمٌ كل واحدِ في مجاله واختصاصه.