سؤال الدولة الإسلامية أو الاستشراق في زمن القوة الناعمة

سؤال الدولة الإسلامية أو الاستشراق في زمن القوة الناعمة

لم يعد اسم وائل حلاق يرتبط بمشروع الدولة المستحيلة الفكري فحسب، بل أصبح ظاهرة تؤشر على وجود تطور عجيب في مؤسسة الاستشراق في الغرب وآلية اشتغال هذه المؤسسة. في معرض رده على سؤال بخصوص علاقته بالإسلام وعن الشيء الذي منعه من اعتناق هذا الدين الذي يستميت في الدفاع عن شريعته، يجيب حلاق بكلام يشعر المشاهد العربي المسلم أنه أمام قوة ناعمة تعتمد إستراتيجية تُخاتل الوعي الغربي كي تقوم بالمرافعة عن قضايا الإسلام والمسلمين بأفضل وجه. فَلَأَن يدافع حلاق غير المسلم عن مصالح المسلمين في الغرب خير من أن يدافع عنها وهو مسلم.

يورثنا هذا الجواب حيرة كبيرة. أَمَا لوائل حلاق فطنة تجعله يدرك أننا في عالم منفتح، وأنه حين يتحدث إلى العالم العربي الإسلامي فهو يتحدث في الوقت نفسه مع العالم الغربي كذلك؟ أما يخشى أن يفصح بكلامه هذا عن إستراتيجية قوته الناعمة التي تروم النفاذ إلى عمق الوعي الغربي كي تؤثر فيه؟ هل أصبحت مؤسسة الاستشراق، إلى هذا الحد، تخدم مصالح المسلمين وتدافع عن قضاياهم وتحمل أجندتهم؟ أم إن استراتيجية قوة حلاق الناعمة أصبحت جزءا من إستراتيجية الخطاب الاستشراقي في زمن القوة الناعمة، قوة تستهدف سيكولوجية الجماهير في العالم العربي والإسلامي، وليس الوعي أو المخيال الغربيين؟

نجد أنفسنا مجبرين على تلمس السبل للخروج من مأزق سؤال الدولة كما يطرحه حلاق. فالحديث عن استحالة أو إمكان قيام الدولة هو حديث نظري لا علاقة له بالواقع التاريخي

مجازفة تقويض أركان الدولة الحديثة

الجديد في خطاب وائل حلاق الاستشراقي أنه أصبح يصنع أجندة النقاش في العالم العربي والإسلامي. وقد استدرجنا للدخول في نقاش حول مسألة الدولة يفترض أن يوصل إلى جوابين لا ثالث معهما: إما تقويض أركان الدولة الحديثة من الأساس، وإما القبول بالعيش تحت سقفها.

إن في الدعوة إلى تقويض أركان الدولة الحديثة مجازفة كبيرة. فحالنا أشبه بحال من يوجد داخل بيت ويريد أن يهدم أركانه، لا يأمن أن يسقط السقف فوق رأسه. بهذا الاعتبار، نجد أنفسنا مجبرين على تلمس السبل للخروج من مأزق سؤال الدولة كما يطرحه حلاق. فالحديث عن استحالة أو إمكان قيام الدولة هو حديث نظري لا علاقة له بالواقع التاريخي. فالدولة هي نتاج ظروف وأسباب تتهيأ في سياق تاريخي يطبعه الاحتكاك بين قوى مختلفة.

الاجتماع السياسي في التصور اليوناني

حين نقرأ مؤلف أرسطو الشهير في السياسة، نجد في فصله الأول المخصص للاجتماع السياسي وعلاقته بضروب الاجتماع الأخرى قولا يفيد بأن “كل مدينة (Polis) هي نوع من أنواع الاجتماع، وأن كل أنواع الاجتماع تنشأ لخدمة ما فيه خَيْرٌ ما (good)، ذلك أن جميع الناس يأتون جميع أفعالهم بغرض بلوغ ما يعتبرونه خيرا من وجهة نظرهم”. ويأتي على رأس أنواع الاجتماع، الاجتماع السياسي (Political association)، كما يتجسد في اجتماع المدينة (Polis)، هذا الاجتماع الذي يجسد سيادة الخير المطلق.

ويتدرج أرسطو في عرضه لمعنى الاجتماع السياسي حتى يصل إلى تعريف الإنسان بأنه “كائن سياسي”. ويتولد عن هذا التعريف سؤال متعلق بسؤال الأخلاق: هل خيرية هذا الإنسان السياسي، ساكن المدينة، هي نفسها خيرية الإنسان الطبيعي قبل تأسيس المدينة؟ أم إن خيرية الإنسان الطبيعي أشمل لأنها لا تتقيد بدستور من دساتير الاجتماع السياسي؟

يبذل أرسطو جهدا نظريا كبيرا في محاولته الإجابة على هذه الأسئلة إجابة عقلية تروم التفصيل في ما هو من الناحية العقلية أفضل شكل للدولة-المدينة، التي هي تجسيد للاجتماع البشري المثالي. وعلى الرغم من أن جهد أرسطو محكوم بسياقه المجتمعي المحدود، سياق مجتمع يوناني مهووس بإقرار الحدود بين من يملك حق المواطنة ومن لا يملك هذا الحق، مثلا، فقد كان له دور كبير في رسم الخطوط الكبرى التي ستحدد طبيعة النقاش حول الدولة، سواء في الحقبة الكلاسيكية الأولى أو الحقبة الحديثة.

الإسلام، بمنطوق القرآن والحديث، ليس فيه ما يحصر هوية الإنسان في البعد الاجتماعي السياسي المغلق، المحدود بحدود المدينة بمعناها اليوناني

إن القول بأن الغاية من وجود الإنسان هي الدولة-المدينة فيه تضييق لواسعٍ. ولذلك نجد أن جهدا تنظيريا عظيما بذل على امتداد القرنين الأخيرين على أقل تقدير للخروج من مأزق التعريف الأرسطي الذي يختزل الوجود الإنساني في بعده السياسي. وقد أدرك كثيرون أن الانعتاق من هذا المأزق يقتضي الانعتاق من أسر العقل-الأداة أو العقل-الآلة (الأورغانون الأرسطي) الذي تأسس عليه مفهوم الاجتماع السياسي. ولا شك في أن كثيرا من محاولات الخروج من مأزق المفهوم الأرسطي تلتقي مع التصور الديني في زمن ما بعد الحداثة.

الاجتماع السياسي في التصور الإسلامي

لا جدال في أن التصورات الإسلامية للوجود تؤسس لمفهوم الاجتماع تأسيسا مختلفا. فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم يقول إن الأمة الإسلامية “لا تجتمع على ضلالة”. ما يهمنا من هذا الحديث، بعيدا عن الخوض في صحته من عدمها، هو كونه يؤسس لتصور يفيد بأن في اجتماع المسلمين خيرا. غير أن اجتماع المسلمين، على عكس المجتمع الأرسطي، يتم تحت سقف المدينة. واسم المدينة هنا لا يدل على (Polis)، بل يستقل بالدلالة على فضاء مفتوح “يدين” في وجوده لقوة غيبية، ولا ينضبط بالسياسة (Politics) فحسب، بل أيضا بفقه أو فن ينظم العلاقة تنظيما سياسيا ثنائيا بين المواطنين، أي ساكني المدينة بمدلولها اليوناني. فالقرآن الكريم يضعنا أمام إمكانين اثنين: إما النجاة بالاعتصام الجماعي بحبل الله، وإما الهلاك بالتفرق.

يحملنا هذا على الاعتقاد بأن الإسلام، بمنطوق القرآن والحديث، ليس فيه ما يحصر هوية الإنسان في البعد الاجتماعي السياسي المغلق، المحدود بحدود المدينة بمعناها اليوناني. من يتدبر القرآن الكريم يجد فيه تأكيدا على أن الملك المطلق لله وحده سبحانه، ويدعو الإنسان للتأمل في ملكوت السماوات والأرض من أجل إدراك هذه الحقيقة، كما في قوله تعالى: “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت، فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر” (الغاشية- الآية: 17).

لا شك في أن الأمة الإسلامية تفاعلت على امتداد تاريخها مع دعوة الإسلام إلى توسيع آفاق الإدراك لتجاوز اختزال الإنسان في بعده كـ”كائن سياسي” ينضبط بضوابط دساتير الاجتماع السياسي. غير أن اجتماع المسلمين وما تمخض عنه من تحديات جعلهم يتفاعلون مع مفاهيم الدولة القائمة على امتداد تاريخهم بغرض ترسيخ سيطرة السلطان على الواقع الاجتماعي الذي لم يعد واقع إيمان فحسب. وبقدر ما ظلت الدعوة القرآنية إلى “النظر” قائمة في تاريخ المسلمين، يحملها الخطاب الأخلاقي الإسلامي، برزت الحاجة في هذا التاريخ إلى “نظرية” في الاجتماع من صنع العقل الإسلامي. فتاريخ المسلمين مليء بالنظريات في الاجتماع السياسي التي تحاول التوفيق بين مقتضيات النظر في ملكوت السموات والأرض ومقتضيات السيطرة على المجتمع. وقد بلغ الاختلاف بين هذه النظريات درجة عالية من العنف في بعض السياقات.

الدين، كما يحق لنا أن نتصوره، لا يُعنى بتحديد أشكال التمكين للسلطان، بقدر ما يدعو إلى ضرورة تجنب السقوط في الطغيان، واضعا الإنسان أمام مسؤولياته الأخلاقية

إن النقاش الدائر حول جدلية الديني والسياسي لم يحسم أبدا في تاريخ المسلمين، ولن يحسم بدعوة وائل حلاق، البسيطة في ظاهرها، إلى العودة إلى “ظاهرة الشريعة النموذجية” ودعوته إلى تقويض أسس الحداثة. إن المجتمعات المسلمة أصبحت مدعوة لبلورة نظرياتها السياسية من منطلق التفاعل المزدوج مع خطاب الأخلاق الديني الذي يذكر بأبعاد الوجود الكبرى تفاديا لحصر هوية الإنسان في بعده “السياسي” اليوناني الضيق، ومع الدولة الحديثة بوصفها المجسد لشكل من أرقى أشكال سيطرة السلطان.

الحاجة لنظرية سياسية جديدة

إذا صح أن “ظاهرة الشريعة النموذجية” استوعبت أشكالا متعددة للسلطة، فيصح معها أن هذه الظاهرة قادرة على استيعاب أشكال السلطة في زمن الحداثة. إن في الدعوة إلى تقويض أشكال الدولة الحديثة شرطًا لتحقق السلطة الإسلامية ما يشي بما يخالف روح الدين. فالدين، كما يحق لنا أن نتصوره، لا يُعنى بتحديد أشكال التمكين للسلطان، بقدر ما يدعو إلى ضرورة تجنب السقوط في الطغيان، واضعا -هكذا- الإنسان أمام مسؤولياته الأخلاقية.

إن القول بفساد الحداثة قول يصح من وجه، ولا يصح من وجه آخر. يصح بالنظر إلى ما آلت إليه من إسراف وطغيان يهددان بنسف أسس الحضارة الإنسانية اليوم؛ لكن لا يصح باعتبار ما كان لها من فضل في تحرير طاقات الإنسان الإبداعية في الكون. ولا يتصور انبعاث أي نموذج إسلامي في السياسة أو في غيرها من المجالات دون المرور بالحداثة؛ كما لا يتصور أن الحداثة قامت في معزل عن تأثير الثقافة الإسلامية.

وفي الختام يبدو لنا أن لا حاجة تعدل حاجة المسلمين اليوم إلى الوعي بالضرورة المزدوجة: ضرورة نقد الحداثة الأخلاقي، وضرورة استئناف الكلام من أجل بلورة نظرية سياسية تمكّن للمسلمين في عالم اليوم، نظرية تؤلف بين التراث والحداثة، لتستشرف أفقا سياسيا جديدا.

170 مشاهدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *